هل نعيش ضمن محاكاة كونية

هل نعيش ضمن محاكاة كونية




في هذا المقال سأبحث موضوع فلسفي بعض الشيء ضمن منظور علمي فيزيائي وهو إن كان هذا الكون عبارة عن محاكاة افتراضية للوجود. فكرة المحاكاة تدور حول إمكانية أن يكون هذا الكون عبارة عن وجود داخل كمبيوتر كمي كبير وأننا مجرد برمجيات داخل هذا الكمبيوتر.
بداية يجب أن أنوه عن بعض النقاط في سبيل رفع المسؤولية العلمية عن نفسي وهي أنه من المستحيل علمياً إثبات عكس فرضية المحاكاة لأن أي دليل ينافي المحاكاة ممكن أن ندعي أنه جزء من المحاكاة وأنه موجود في سبيل تمويه المحاكاة. أيضاً، الأفكار المذكورة هنا على الرغم من أنها مبنية على أساس علمي لكنها ليس بحث حول بدايات الكون لأنه مهما كان الاستنتاج (إن كان هذا الكون عبارة عن محاكاة أو لا) فإن السؤال الأصلي حول بدايات الكون يبقى قائماً. من هي الجهة التي بدأت هذه المحاكاة ومن اين أتت؟ لهذا ولكي يكون هذا البحث مركّز حول نقطة المحاكاة فأنا أنوه أن هذا البحث لا يجيب على سؤال البدايات ولن أبذل جهد الالتفات له. ملاحظة أخيرة أيضاً وهي أنني مهما حاولت تجنب مغالطة الاستدلال الدائري ضمن هذا المقال فلن أستطيع ذلك لأن جميع المعلومات التي أقدمها ضمن المقال هي معلومات أنا تعلمتها من ضمن المحاكاة إن كانت صحيحة وبالتالي أنا لا أمتلك القدرة على الحصول على معلومات من خارج المحاكاة لكي أفسر هذه المحاكاة وهذا ما نسميه استدلال دائري حيث أني أثبت وجود الشيء من ضمن الشيء نفسه.

الواقع:

نحن لا نمتلك أي وسيلة لأثبات أن هذا الواقع موجود خارج دماغنا إطلاقاً. كل ما نشعر به وكل ما نمارسه من نشاطات ممكن أن تكون ليست سوى تفاعلات افتراضية تتم ضمن نظام مغلق مبرمج من جهة أخرى. على فرض أن شخصية سوبر ماريو التابعة لشركة نينتندو تمتلك إدراك. لنتخيل أن ماريو مدرك أنه في مكان ثنائي الأبعاد وأن هدفه في الوجود هو أكل الفطر وجمع القطع النقدية والوصول نحو راية النهاية في كل مرحله. هو لا يعلم بوجود عالم خارجي يوثر عليه وليس مدرك بوجود كيان خارجي يتحكم بتصرفاته. هو يعتقد أن الوجود عبارة عن عالم ثنائي الأبعاد مليء بالمصاعب والعثرات التي تقف بينه وبين تحقيق غايته في الوجود “الوصول إلى راية النهاية”. قد يكون عالمنا شبيه بعالم ماريو.
هل سيعلم ماريو أنه ضمن لعبة أم أنه سيمارس وجوده ضمن القوانين المنصوصة له دون أن يميز أننا في الواقع نتحكم به في سبيل التسلية والترفيه. على فرض أننا نحن هي شخصية ماريو لكيان آخر يتحكم بنا فنحن لا نمتلك أي وسيلة لاكتشاف هذه الحقيقة وكل ما سنقوم به من اكتشافات لدحض فرضية أننا جزء من لعبة كمبيوتر ستكون اكتشافات وضعها لنا المبرمج لكي نعتقد أننا بدأنا نكتشف سر وجودنا. لهذا ستكون استراتيجيتي في الطرح هي ليست دحض أو أثبات هذه الفرضية وإنما طرح كيف ممكن أن يكون هذا الوجود مجرد محاكاة لعالم خارجي آخر.
موقفي الشخصي من الفرضية أنه يوجد دلائل كثيرة تشير إلى إمكانية وجودنا ضمن محاكاة كونية لكنني أميل لعدم قبول هذه الفرضية. أتمنى أن تتابع المقال خطوة خطوة قبل أن تقبل أو ترفض هذا الموقف.

ادعاء المحاكاة:

هذا الادعاء مبني على أساس أن الواقع عبارة عن محاكاة حاسوبية للواقع بشكل تفصيلي يبدو واقعي للكيانات التي تعيش ضمنه بشكل لا يمكنها أن تميز أنه عالم افتراضي. يتم طرح ادعاء المحاكاة (Simulation Argument) عن طريق فرضية المحاكاة (Simulation Hypothesis).
الفرضية تدعي أن المستقبل يحمل ثلاثة احتمالات مستقبلية حصرياً وهي إما انقراض البشر لسبب ما أو تطور البشر بحيث يمكنهم محاكاة الواقع على حاسوب متطور لكنهم يختاروا أن لا يقوموا بهذه المحاكاة أو أننا فعلاً نعيش ضمن محاكاة قام بها أجدادنا في الماضي بهدف فهم تاريخ الكون أو ضمانة بقائه.
  • الاحتمال الأول:
    تطور الحضارة البشرية بشكل تقضي على نفسها أو تتعرض لكارثة كونية تؤدي إلى انقراضها.
  • الاحتمال الثاني:
    تستمر الحضارة البشرية بالتطور التقني إلى أن يصبح لديها قوة حاسوبية عالية جداً تكون قادرة على محاكاة الكون المنظور تماماً كما هو بكل تفاصيله ضمن جهاز كمبيوتر كمي فتكون محتويات هذا الكون نسخ مطابقة لما هو موجود في الكون الحالي “الخارجي”. ضمن هذا الاحتمال (الاحتمال الثاني) نجد أنه على الرغم من قدرات البشر على المحاكاة إلا أنهم يقرروا لأسباب أخلاقية بأن لا يقوموا بهذه المحاكاة.
  • الاحتمال الثالث:
    مبني على الاحتمال الثاني، إلا أن نسبة صغيرة من البشر تقرر لأسباب معرفية بهدف فهم تاريخ الكون أن تقوم بمحاكاة الكون المنظور على جهاز كمبيوتر كمي بغض النظر عن الاعتراضات الأخلاقية. إذاً تتطور الحضارة البشرية لدرجة تستطيع فيها محاكاة الكون المنظور وبالفعل تقوم بذلك وأننا حالياً نعيش ضمن هذه المحاكاة ولا يمكننا أن نميز الواقع عن المحاكاة بسبب دقة هذه المحاكاة التي بدأ بها أجدادنا في السابق.

دعونا نعاين الاحتمال الثاني والثالث قليلاً. التطور التكنولوجي الحاصل اليوم وقدراتنا المتنامية في فهم الأساسيات الفيزيائية تجعل من فكرة قدرتنا على محاكاة واقعنا هذا فكرة ممكنة في المستقبل من الناحية النظرية إلا أن وجود بعض العقبات والفراغات المعرفية تحول دون قدرتنا على القيام بهذه المحاكاة اليوم. هذا يعني أننا لوكنا نعيش ضمن محاكاة اليوم فنحن غير قادرين حتى الأن على القيام بمحاكاة ضمن المحاكاة. مع العلم أن احتمال وجودنا ضمن محاكاة من منطلق رياضي هي احتمالية أكبر بكثير من وجودنا في كون “خارجي” طالما أن فرضية المحاكاة أصبحت قائمة. هذا يعني أنه على فرض أننا نعلم بالدليل القاطع أننا استطعنا تنفيذ محاكاة كونية أو أننا نستطيع اليوم تنفيذها فإن احتمال وجودنا ضمن محاكاة يصبح أكبر بكثير من احتمال وجودنا في كون خارجي وذلك لأن الظروف الازمة لنشوء تحتاج تناظم ملايين المتغيرات مع بعضها البعض بينما المحاكاة الكونية تصبح احتمال لا متناهي حيث ممكن أن نقوم بأعداد لا متناهية من المحاكاة الكونية التي تتضمن موجودات مثلنا أو شبيهة لطريقة تفكيرنا. حيث لنعود لموضوع التطور التقني قليلاً.
يوجد مبداً نسميه مبدأ مور (Moore’s law) وهو يفترض أن القدرات الحاسوبية تتضاعف كل سنتين. هذا المبدأ صحيح منذ ١٩٧٠ حيث أن قدراتنا الحاسوبية تضاعفت كل عامين منذ وُضع هذا المبدأ. هنا أود أن أنوه أن هذا المبدأ مبني على توقع مضاعفة عدد الترانزستورات في وحدات التحليل كل سنتين لكن فقط لأن هذا المبدأ توقع هذه المضاعفات بشكل صحيح لا يعني أنه مبني على أساس علمي أو أنه سيستمر على هذا الشكل في المستقبل. اعتقادي الشخصي أن مبدأ مور أصبح هدف تجاري تجهد شركات تطوير التكنولوجيا لتحقيقه وبالتالي صار تحقيق المبدأ هو بحد ذاته المحفز في ضبط سرعة تطور المعالجات الحاسوبية.

محدودية الحاسوب الحالي:

في القرن الواحد والعشرين نحن اقتربنا من الوصول إلى نقطة تصبح فيها التكنولوجيا الحالية غير قادرة على مضاعفة عدد ترانزستوراتها بسبب عدم توفر مساحة كافية ضمن الزمكان لإضافة الترانزستورات (سأعود لهذه النقطة لاحقاً). هذا يعني أنه مهما كانت قدراتنا الحالية في انتاج قدرات حاسوبية فعّالة فإننا محدودين بحجم يكون أكبر من الذرات التي تتألف منها الترانزستورات وبالتالي سنواجه قريباً محدودية زمكانية تمنعنا من مضاعفة قدراتنا. هذا يعني أننا سنصل لحجم ضئيل لدرجة لا يمكن صناعة قدرة حاسوبية ضمنه بسبب محدودية الذرات التي يمكنها أن تعمل ضمن هذا الحجم الضئيل.
لكن في صعيد آخر بدأنا نحقق إنجازات كبيرة على مستوى الكمبيوترات الكمية والتي إن نجحت ستضاعف قدراتنا الحسابية بمئات المرات عما هو متوفر حالياً ولديها قدرات نظرية ممكن أن تكون قادرة على القيام بمحاكاة ذات تفاصيل كبيرة. سأعود لموضوع الكمبيوترات الكمية لأنها أساسية في فهم كيف ممكن أن يكون هذا الكون عبارة عن محاكاة.
لكن قبل التحدث عن الكمبيوترات الكمية يجب تفسير مصطلح “معلومات” من الناحية الفيزيائية. اليوم نحن لدينا فكرة جيدة عن الكون بشكل عام. نعلم بوجود المجرات وأنها تتألف من مليارات النجوم وأن النجوم تتألف من مليارات الذرات وأن الذرات تتألف من جزيئات أساسية لكن مما تتألف الجزيئات الأساسية؟
عند تخفيض أي شيء إلى مستواه الدون الذري سنصل لنقطة يصبح فيها الكيان عبارة عن طاقة لها توصيف معلوماتي. عندما نفحص نواة ابسط أنواع الذرات (الهيدروجين) نجدها تتألف من حزمة من الطاقة التي نسميها نحن “بروتون”. هذه الحزمة تتألف من ثلاث حزم مترابطة مع بعضها البعض ضمن علاقة نسميها القوة النووية القوية. الحزم الثلاث هذه نسميها كواركات.
الكواركات هي تسميه لوحدات أساسية من الطاقة التي تتميز بشحنات كهربائية مختلفة. فمثلاً الحزمة التي فيها شحنة بقيمة ثلثين نسميها (كوارك UP) بينما حزمة الطاقة التي تستحوذ على شحنة بقيمة ناقص ثلث نسميها (كوارك Down). هنا أود أن أنوه أن هذه الحزم لا تختلف بشيء مادي سوى بقيمة عددية ترمز لشحنة هذه الحزمة وبالتالي فإن المسميات البشرية لها كواركات Up or Down لا تعني أي شيء. الاختلاف ليس اختلاف بالنوع وإنما بقيمة الشحنة (اختلاف معلوماتي).
هذا يعني أن نواة ذرة الهيدروجين والتي تتألف من بروتون هي تتألف في الواقع من كواركين UP  وكوارك واحد Down  لها قيمة تساوي ١
إذ أن +2/3  +2/3 + (-1/3) = 1
UP+UP+DOWN= 1

بينما يوجد لدينا ما يسمى النيوترون والذي لديه قيمة تساوي صفر لأنه يتألف من كواركين Down  وكوارك Up
إذ أن (-1/3) + (-1/3) + (2/3) = 0
DOWN + DOWN+UP=0

لا تشعر بالخوف من هذه الأرقام إذ أن الفكرة الأساسية هنا ليست تقنية على قدر ما هي توضيح أن الذرات والجزيئات ليست سوى معلومات تختلف قميها الرقمية فينتج تفاعلات مختلفة عنها لكنها جميعاً متطابقة نوعياً. عندما نقول إنه يوجد أوكسجين ويوجد كربون ويوجد حديد ويوجد هيليوم فنحن لا نتحدث عن كيانات مختلفة نوعياً وإنما اختلافات رقمية في قيم الطاقة الكامنة فيها. جميع هذه الجسيمات تتألف من نفس الكواركات لكن ضمن كميات مختلفة. هذا يعني أنه على المستوى النووي تصبح الإختلافات عبارة عن اختلافات في معلومات الذرة وليست اختلافات نوعية. الهيدروجين لا يختلف عن الهيليوم سوى بوجود عدد أكبر من الكواركات ضمن علاقات رياضية تربطها مع بعضها البعض. هذا يعني أن الإختلاف بين هتين الذريتين هو اختلاف في المعلومات التي توصف هتين الذرتين.
عندما تكون نتيجة جمع قيمة شحنات الكواركات تساوي ١ نسميها بروتون وعندما تكون نتيجة جمع الكواركات 0 نسميها نيوترون.

إرسال تعليق

MKRdezign

{facebook#https://www.facebook.com/MarefaOnline-133788580565365/?ref=bookmarks} {twitter#https://twitter.com/marefaonline} {google-plus#https://plus.google.com/u/0/109702890029205411694} {pinterest#http://feeds.feedburner.com/marefa-online} {youtube#https://www.youtube.com/channel/UC-dKJvBfSxVuc8i5tiXtkMg} {instagram#http://www.marefaonline.tk/}

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget